الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر} قوله تعالى{يا أيها المدثر} أي يا ذا الذي قد تدثر بثيابه، أي تغشى بها ونام، وأصله المتدثر فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما. وقرأ أبي {المتدثر} على الأصل. وقال مقاتل: معظم هذه السورة في الوليد بن المغيرة. و وقيل: قوله تعالى{يا أيها المدثر}: ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله، وعبر عنه بصفته، ولم يقل يا محمد ويا فلان، ليستشعر اللين والملاطفة من ربه كما تقدم في سورة المزمل . ومثله قلت: قد تقدم في أول سورة البقرة أن هذا اللفظ {الله أكبر} هو المتعبد به في الصلاة، المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي التفسير: أنه الفاء في قوله تعالى{وربك فكبر} دخلت على معنى جواب الجزاء كما دخلت في فأنذر أي قم فأنذر وقم فكبر ربك؛ قاله الزجاج. وقال ابن جني: هو كقولك زيدا فاضرب؛ أي زيدا اضرب، فالفاء زائدة. قوله تعالى{وثيابك فطهر} فيه ثمانية أقوال: أحدهما أن المراد بالثياب العمل. الثاني القلب. الثالث النفس. الرابع الجسم. الخامس الأهل. السادس الخلق. السابع الدين. الثامن الثياب الملبوسات على الظاهر. فمن ذهب إلى القول الأول قال: تأويل الآية وعملك فأصلح؛ قال مجاهد وابن زيد. وروى منصور عن أبي رزين قال: يقول وعملك فأصلح؛ قال: وإذا كان الرجل خبيث العمل قالوا إن فلانا خبيث الثياب، وإذا كان حسن العمل قالوا إن فلانا طاهر الثياب؛ ونحوه عن السدي. ومنه قول الشاعر: ومنه ما أي قلبي من قلبك. قال الماوردي: ولهم في تأويل الآية وجهان: أحدهما: معناه وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي؛ قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: وقلبك فطهر من الغدر؛ أي لا تغدر فتكون دنس الثياب. وهذا مروي عن ابن عباس، واستشهد بقول غيلان بن سلمة الثقفي: ومن ذهب إلى القول الثالث قال: تأويل الآية ونفسك فطهر؛ أي من الذنوب. والعرب تكني عن النفس بالثياب؛ قاله ابن عباس. ومنه قول عنترة: وقال امرؤ القيس: وقال: أي أنفس بني عوف. ومن ذهب إلى القول الرابع قال: تأويل الآية وجسمك فطهر؛ أي عن المعاصي الظاهرة. ومما جاء عن العرب في الكناية عن الجسم بالثياب قول ليلى، وذكرت إبلا: أي ركبوها فرموها بأنفسهم. ومن ذهب إلى القول الخامس قال: تأويل الآية وأهلك فطهرهم من الخطايا بالوعظ والتأديب؛ والعرب تسمي الأهل ثوبا ولباسا وإزارا؛ قال الله تعالى أي حسن الأخلاق. ومن ذهب إلى القول السابع قال: تأويل الآية ودينك فطهر. وفي الصحيحين عنه عليه السلام قال: يعني بطهارة ثيابهم: سلامتهم من الدناءات، ويعني بغرة وجوههم تنزيههم عن المحرمات، أو جمالهم في الخلقة أو كليهما؛ قال ابن العربي. وقال سفيان بن عيينة: لا تلبس ثيابك على كذب ولا جور ولا غدر ولا إثم؛ قاله عكرمة. ومنه قول الشاعر: أي قد دنسها بالمعاصي. وقال النابغة: ومن ذهب إلى القول الثامن قال: إن المراد بها الثياب الملبوسات، فلهم في تأويله أربعة أوجه: أحدهما: معناه وثيابك فأنق؛ ومنه قول امرئ القيس: الثاني: وثيابك فشمر وقصر، فإن تقصير الثياب أبعد من النجاسة، فإذا انجرت على الأرض لم يؤمن أن يصيبها ما ينجسها، قال الزجاج وطاوس. الثالث{وثيابك فطهر} من النجاسة بالماء؛ قال محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء. الرابع: لا تلبس ثيابك إلا من كسب حلال لتكون مطهرة من الحرام. وعن ابن عباس: لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طاهر. ابن العربي وذكر بعض ما ذكرناه: ليس بممتنع أن تحمل الآية على عموم المراد فيها بالحقيقة والمجاز، وإذا حملناها على الثياب المعلومة الطاهرة فهي تتناول معنيين: أحدهما: تقصير الأذيال؛ لأنها إذا أرسلت تدنست، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لغلام من الأنصار وقد رأى ذيله مسترخيا: ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى وأبقى. وقد والمعنى الثاني: غسلها من النجاسة وهو ظاهر منها، صحيح فيها. المهدوي: وبه استدل بعض العلماء على وجوب طهارة الثوب؛ قال ابن سيرين وابن زيد: لا تصل إلا في ثوب طاهر. واحتج بها الشافعي على وجوب طهارة الثوب. وليست عند مالك وأهل المدينة بفرض، وكذلك طهارة البدن، ويدل على ذلك الإجماع على جواز الصلاة بالاستجمار من غير غسل. وقد مضى هذا القول في سورة التوبة مستوفى. {والرجز فاهجر} قوله تعالى{والرجز فاهجر} قال مجاهد وعكرمة: يعني الأوثان؛ دليله قوله تعالى {ولا تمنن تستكثر} قوله تعالى{ولا تمنن تستكثر} فيه أحد عشر تأويلا؛ الأول: لا تمنن على ربك بما تتحمله من أثقال النبوة، كالذي يستكثر ما يتحمله بسبب الغير. الثاني: لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها؛ قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة. قال الضحاك: هذا حرمه الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجل الأخلاق، وأباحه لأمته؛ وقال مجاهد. الثالث: عن مجاهد أيضا لا تضعف أن تستكثر من الخير؛ من قولك حبل منين إذا كان ضعيفا؛ ودليله قراءة ابن مسعود {ولا تمنن تستكثر من الخير}. الرابع: عن مجاهد أيضا والربيع: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير، فإنه مما أنعم الله عليك. قال ابن كيسان: لا تستكثر عملك فتراه من نفسك، إنما عملك منة من الله عليك؛ إذ جعل الله لك سبيلا إلى عبادته. الخامس: قال الحسن: لا تمنن على الله بعملك فتستكثره. السادس: لا تمنن بالنبوة والقرآن على الناس فتأخذ منهم أجرا تستكثر به. السابع: قال القرظي: لا تعط مالك مصانعة. الثامن: قال زيد بن أسلم: إذا أعطيت عطية فأعطها لربك. التاسع: لا تقل دعوت فلم يستجب لي. العاشر: لا تعمل طاعة وتطلب ثوابها، ولكن اصبر حتى يكون الله هو الذي يثيبك عليها. الحادي عشر: لا تفعل الخير لترائي به الناس. هذه الأقوال وإن كانت مرادة فأظهرها قول ابن عباس: لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال؛ يقال: مننت فلانا كذا أي أعطيته. ويقال للعطية المنة؛ فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله، لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها؛ لأنه عليه السلام ما كان يجمع الدنيا، ولهذا قال: قوله تعالى{ولا تمنن} قراءة العامة بإظهار التضعيف. وقرأ أبو السمال العدوي وأشهب العقيلي والحسن {ولا تمن} مدغمة مفتوحة. {تستكثر}: قراءة العامة بالرفع وهو في معنى الحال، تقول: جاء زيد يركض أي راكضا؛ أي لا تعط شيئا مقدرا أن تأخذ بدله ما هو أكثر منه. وقرأ الحسن بالجزم على جواب النهي وهو رديء؛ لأنه ليس بجواب. ويجوز أن يكون بدلا من {تمنن} كأنه قال: لا تستكثر. وأنكره أبو حاتم وقال: لأن المن ليس بالاستكثار فيبدل منه. ويحتمل أن يكون سكن تخفيفا كعضد. أو أن يعتبر حال الوقف. وقرأ الأعمش ويحيى {تستكثر} بالنصب، توهم لام كي، كأنه قال: ولا تمنن لتستكثر. وقيل: هو بإضمار {أن} كقوله: (ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى) ويؤيده قراءة ابن مسعود {ولا تمنن أن تستكثر}. قال الكسائي: فإذا حذف {أن} رفع وكان المعنى واحدا. وقد يكون المن بمعنى التعداد على المنعم عليه بالنعم، فيرجع إلى القول الثاني:، ويعضده قوله تعالى {ولربك فاصبر} قوله تعالى{ولربك فاصبر} أي ولسيدك ومالكك فاصبر على أداء فرائضه وعبادته. وقال مجاهد: على ما أوذيت. وقال ابن زيد: حملت أمرا عظيما؛ محاربة العرب والعجم، فاصبر عليه لله. وقيل: فاصبر تحت موارد القضاء لأجل الله تعالى. وقيل: فاصبر على البلوى؛ لأنه يمتحن أولياءه وأصفياءه. وقيل: على أوامره ونواهيه. وقيل: على فراق الأهل والأوطان. {فإذا نقر في الناقور، فذلك يومئذ يوم عسير، على الكافرين غير يسير} قوله تعالى{فإذا نقر في الناقور} إذا نفخ في الصور. والناقور: فاعول من النقر، كأنه الذي من شأنه أن ينقر فيه للتصويت، والنقر في كلام العرب: الصوت؛ ومنه قول امرئ القيس: وهم يقولون: نقر باسم الرجل إذ دعاه مختص له بدعائه. وقال مجاهد وغيره: هو كهيئة البوق، ويعني به النفخة الثانية. وقيل: الأولى؛ لأنها أول الشدة الهائلة العامة. وقد مضى الكلام في هذا مستوفى في النمل و الأنعام وفي كتاب التذكرة ، والحمد لله. وعن أبي حبان قال: أمنا زرارة بن أوفى فلما بلغ {فإذا نقر في الناقور} خر ميتا. {فذلك يومئذ يوم عسير} أي فذلك اليوم يوم شديد {على الكافرين} أي على من كفر بالله وبأنبيائه صلى الله عليهم {غير يسير} أي، غير سهل ولا هين؛ وذلك أن عقدهم لا تنحل إلا إلى عقدة أشد منها، بخلاف المؤمنين الموحدين المذنبين فإنها تنحل إلى ما هو أخف منها حتى يدخلوا الجنة برحمة الله تعالى. و{يومئذ} نصب، على تقدير فذلك يوم عسير يومئذ. وقيل: جر بتقدير حرف جر، مجازه: فذلك في يومئذ. وقيل: يجوز أن يكون رفعا إلا أنه بني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن. {ذرني ومن خلقت وحيدا، وجعلت له مالا ممدودا، وبنين شهودا، ومهدت له تمهيدا، ثم يطمع أن أزيد، كلا إنه كان لآياتنا عنيدا، سأرهقه صعودا} قوله تعالى{ذرني ومن خلقت وحيدا} {ذرني} أي دعني؛ وهي كلمة وعيد وتهديد. {ومن خلقت} أي دعني والذي خلقته وحيدا؛ فـ {وحيدا} على هذا حال من ضمير المفعول المحذوف، أي خلقته وحده، لا مال له ولا ولد، ثم أعطيته بعد ذلك ما أعطيته. والمفسرون على أنه الوليد بن المغيرة المخزومي، وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه. وإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة وإيذاء الرسول عليه السلام، وكان يسمى الوحيد في قومه. قال ابن عباس: كان الوليد يقول: أنا الوحيد بن الوحيد، ليس لي في العرب نظير، ولا لأبي المغيرة نظير، وكان يسمى الوحيد؛ فقال الله تعالى{ذرني ومن خلقت} بزعمه {وحيدا} لا أن الله تعالى صدقه بأنه وحيد. وقال قوم: إن قوله تعالى{وحيدا} يرجع إلى الرب تعالى على معنيين: أحدهما: ذرني وحدي معه فأنا أجزيك في الانتقام منه عن كل منتقم. والثاني: أني أنفردت بخلقه ولم يشركني فيه أحد، فأنا أهلكه ولا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه؛ {فوحيدا} على هذا حال من ضمير الفاعل، وهو التاء في {خلقت} والأول قول مجاهد، أي خلقته وحيدا في بطن أمه لا مال له ولا ولد، فأنعمت عليه فكفر؛ فقوله{وحيدا} على هذا يرجع إلى الوليد، أي لم يكن له شيء فملكته. وقيل: أراد بذلك ليدله على أنه يبعث وحيدا كما خلق وحيدا. وقيل: الوحيد الذي لا يعرف أبوه، وكان الوليد معروفا بأنه دعي، كما ذكرنا في قوله تعالى قوله تعالى{وجعلت له مالا ممدودا} أي خولته وأعطيته مالا ممدودا، وهو ما كان للوليد بين مكة والطائف من الإبل والحجور والنعم والجنان والعبيد والجواري، كذا كان ابن عباس يقول: وقال مجاهد: غلة ألف دينار، قال سعيد بن جبير وابن عباس أيضا. وقال قتادة: ستة آلاف دينار. وقال سفيان الثوري وقتادة: أربعة آلاف دينار. الثوري أيضا: ألف ألف دينار. مقاتل: كان له بستان لا ينقطع خيره شتاء ولا صيفا. وقال عمر رضى الله عنه{وجعلت له مالا ممدودا} غلة شهر بشهر. النعمان بن سالم: أرضا يزرع فيها. القشيري: والأظهر أنه إشارة إلى ما لا ينقطع رزقه، بل يتوالى كالزرع والضرع والتجارة. قوله تعالى{وبنين شهودا} أي حضورا لا يغيبون عنه في تصرف. قال مجاهد وقتادة: كانوا عشرة. وقيل: اثنا عشر؛ قال السدي والضحاك. قال الضحاك: سبعة ولدوا بمكة وخمسة ولدوا بالطائف. وقال سعيد بن جبير: كانوا ثلاثة عشر ولدا. مقاتل: كانوا سبعة كلهم رجال، اسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام والوليد بن الوليد. قال: فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك. وقيل: شهودا، أي إذا ذكر ذكروا معه؛ قاله ابن عباس. وقيل: شهودا، أي قد صاروا مثله في شهود ما كان يشهده، والقيام بما كان يباشره. والأول قول السدي، أي حاضرين مكة لا يظعنون عنه في تجارة ولا يغيبون. قوله تعالى{ومهدت له تمهيدا} أي بسطت له في العيش بسطا، حتى أقام ببلدته مطمئنا مترفها يرجع إلى رأيه. والتمهيد عند العرب: التوطئة والتهيئة؛ ومنه مهد الصبي. وقال ابن عباس{ومهدت له تمهيدا} أي وسعت له ما بين اليمن والشام وقاله مجاهد. وعن مجاهد أيضا في {ومهدت له تمهيدا} أنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش. قوله تعالى{ثم يطمع أن أزيد} أي ثم إن الوليد يطمع بعد هذا كله أن أزيده في المال والولد. وقال الحسن وغيره: أي ثم يطمع أن أدخله الجنة، وكان الوليد يقول: إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي؛ فقال الله تعالى ردا عليه وتكذيبا له{كلا} أي لست أزيده، فلم يزل يرى النقصان في ماله وولده حتى هلك. و{ثم} في قوله تعالى{ثم يطمع} ليست بثم التي للنسق ولكنها تعجيب، وهي كقوله تعالى وقيل{كلا} بمعنى حقا ويكون ابتداء {إنه} يعني الوليد {كان لآياتنا عنيدا} أي معاندا للنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به؛ يقال: عاند فهو عنيد مثل جالس فهو جليس؛ قال مجاهد. وعند يعند بالكسر أي خالف ورد الحق وهو يعرفه فهو عنيد وعاند. والعاند: البعير الذي يحور عن الطريق ويعدل عن القصد والجمع عند مثل راكع وركع؛ وأنشد أبو عبيدة قول الحارثي: وقال أبو صالح{عنيدا} معناه مباعدا؛ قال الشاعر: قتادة: جاحدا. مقاتل: معرضا. ابن عباس: جحودا. وقيل: إنه المجاهر بعدوانه. وعن مجاهد أيضا قال: مجانبا للحق معاندا له معرضا عنه. والمعنى كله متقارب. والعرب تقول: عند الرجل إذا عتا وجاوز قدره. والعنود من الإبل: الذي لا يخالط الإبل، إنما هو في ناحية. ورجل عنود إذا كان يحل وحده لا يخالط الناس والعنيد من التجبر. وعرق عاند: إذا لم يرقأ دمه. كل هذا قياس واحد وقد مضى في سورة إبراهيم . وجمع العنيد عند، مثل رغيف ورغف. قوله تعالى{سأرهقه} أي سأكلفه. وكان ابن عباس يقول: سألجئه؛ والإرهاق في كلام العرب: أن يحمل الإنسان على الشيء. {صعودا} الصعود: جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي كذلك فيه أبدا رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم،"خرجه الترمذي وقال فيه حديث غريب" وروى عطية عن أبي سعيد قال: صخرة في جهنم إذا وضعوا عليها أيديهم ذابت فإذا رفعوها عادت، قال: فيبلغ أعلاها في أربعين سنة يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع، حتى إذا بلغ أعلاها رمى به إلى أسفلها، فذلك دأبه أبدا. وقد مضى هذا المعنى في سورة {إنه فكر وقدر، فقتل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر، فقال إن هذا إلا سحر يؤثر، إن هذا إلا قول البشر} قوله تعالى{إنه فكر وقدر} يعني الوليد فكر في شأن النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن و{قدر} أي هيأ الكلام في نفسه، والعرب تقول: قدرت الشيء إذا هيأته، وذلك أنه لما نزل وقال الزهري: عذب؛ وهو من باب الدعاء. {كيف قدر} قال ناس{كيف} تعجيب؛ كما يقال للرجل تتعجب من صنيعه: كيف فعلت هذا؟ وذلك كقوله قوله تعالى{وبسر} أي كلح وجهه وتغير لونه؛ قال قتادة والسدي؛ ومنه قول بشر بن أبي خازم: وقال آخر: وقيل: إن ظهور العبوس في الوجه بعد المحاورة، وظهور البسور في الوجه قبل المحاورة. وقال قوم{بسر} وقف لا يتقدم ولا يتأخر. قالوا: وكذلك يقول أهل اليمن إذا وقف المركب، فلم يجيء ولم يذهب: قد بسر المركب، وأبسر أي وقف وقد أبسرنا. والعرب تقول: وجه باسر بين البسور: إذا تغير واسود. {ثم أدبر} أي ولى وأعرض ذاهبا إلى أهله. {واستكبر} أي تعظم عن أن يؤمن. وقيل: أدبر عن الإيمان واستكبر حين دعي إليه. {فقال إن هذا} أي ما هذا الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم {إلا سحر يؤثر} أي يأثره عن غيره. والسحر: الخديعة. وقد تقدم بيانه في سورة البقرة. وقال قوم: السحر: إظهار الباطل في صورة الحق. والأثره: مصدر قولك: أثرت الحديث آثره إذا ذكرته عن غيرك؛ ومنه قيل: حديث مأثور: أي ينقله خلف عن سلف؛ قال امرؤ القيس: لقلت من القول ما لا يزا ل يؤثر عني يد المسند يريد: آخر الدهر، وقال الأعشى: ويروى: بين. {إن هذا إلا قول البشر} أي ما هذا إلا كلام المخلوقين، يختدع به القلوب كما تختدع بالسحر، قال السدي: يعنون أنه من قول سيار عبد لبني الحضرمي، كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك. وقيل: أراد أنه تلقنه من أهل بابل. وقيل: عن مسيلمة. وقيل: عن عدي الحضرمي الكاهن. وقيل: إنما تلقنه ممن ادعى النبوة قبله، فنسج على منوالهم. قال أبو سعيد الضرير: إن هذا إلا أمر سحر يؤثر؛ أي يورث. {سأصليه سقر، وما أدراك ما سقر، لا تبقي ولا تذر، لواحة للبشر} أي سأدخله سقر كي يصلى حرها. وإنما سميت سقر من سقرته الشمس: إذا أذابته ولوحته، وأحرقت جلدة وجهه. ولا ينصرف للتعريف والتأنيث. قال ابن عباس: هي الطبق السادس من جهنم. و" وقال آخر: وقال رؤبة بن العجاج: وقيل: إن اللوح شدة العطش؛ يقال: لاحة العطش ولوحه أي غيره. والمعنى أنها معطشة للبشر أي لأهلها؛ قاله الأخفش؛ وأنشد: يعني باللوح شدة العطش، والتاح أي عطش، والرهام جمع رهمة بالكسر وهي المطرة الضعيفة وأرهمت السحابة أتت بالرهام. وقال ابن عباس{لواحة} أي تلوح للبشر من مسيرة خمسمائة عام. الحسن وابن كيسان: تلوح لهم جهنم حتى يروها عيانا. نظيره {عليها تسعة عشر، وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر} قوله تعالى{عليها تسعة عشر} أي على سقر تسعه عشر من الملائكة يلقون فيها أهلها. ثم قيل: على جملة النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها؛ مالك وثمانية عشر ملكا. ويحتمل أن تكون التسعة عشر نقيبا، ويحتمل أن يكون تسعة عشر ملكا بأعيانهم. وعلى هذا أكثر المفسرين. الثعلبي: ولا ينكر هذا، فإذا كان ملك واحد يقبض أرواح جميع الخلائق كان أحرى أن يكون تسعة عشر على عذاب بعض الخلائق. و قلت: وذكر ابن المبارك قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن رجل من بني تميم قال: كنا عند أبي العوام، فقرأ هذه الآية{وما أدراك ما سقر. لا تبقى ولا تذر. لواحة للبشر. عليها تسعة عشر} فقال ما تسعة عشر؟ تسعة عشر ألف ملك، أو تسعة عشر ملكا؟ قال: قلت: لا بل تسعة عشر ملكا. فقال: وأنى تعلم ذلك؟ فقلت: لقول الله عز وجل{وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا} قال: صدقت هم تسعة عشر ملكا، بيد كل ملك منهم مرزبة لها شعبتان، فيضرب الضربة فيهوي بها في النار سبعين ألفا. وعن عمرو بن دينار: كل واحد منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر. وقال ابن عباس: ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف إنسان في قعر جهنم. قلت: والصحيح إن شاء الله أن هؤلاء التسعة عشر، هم الرؤساء والنقباء، وأما جملتهم فالعبارة تعجز عنها؛ كما قال الله تعالى{وما يعلم جنود ربك إلا هو} وقد قوله تعالى{ليستيقن الذين أوتوا الكتاب} أي ليوقن الذين أعطوا التوراة والإنجيل أن عدة خزنة جهنم موافقة لما عندهم؛ قال ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد وغيرهم. ثم يحتمل أنه يريد الذين آمنوا منهم كعبدالله بن سلام. ويحتمل أنه يريد الكل. ويزداد الذين آمنوا إيمانا{ بذلك؛ لأنهم كلما صدقوا بما في كتاب الله آمنوا، ثم ازدادوا إيمانا لتصديقهم بعدد خزنة جهنم. }ولا يرتاب{ أي ولا يشك }الذين أوتوا الكتاب{ أي أعطوا الكتاب }والمؤمنون{ أي المصدقون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر. {وليقول الذين في قلوبهم مرض{ أي في صدورهم شك ونفاق من منافقي أهل المدينة، الذين ينجمون في مستقبل الزمان بعد الهجرة ولم يكن بمكة نفاق وإنما نجم بالمدينة. وقيل: المعنى؛ أي وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بعد الهجرة. {والكافرون} أي اليهود والنصارى {ماذا أراد الله بهذا مثلا} يعني بعدد خزنة جهنم. وقال الحسين بن الفضل: السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق؛ فالمرض في هذه الآية الخلاف و{الكافرون} أي مشركو العرب. وعلى القول الأول أكثر المفسرين. ويجوز أن يراد بالمرض: الشك والارتياب؛ لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين، وبعضهم قاطعين بالكذب وقوله تعالى إخبارا عنهم{ماذا أراد الله} أي ما أراد {بهذا} العدد الذي ذكره حديثا، أي ما هذا من الحديث. قال الليث: المثل الحديث؛ ومنه قوله تعالى{وما هي إلا ذكرى للبشر} يعني الدلائل والحجج والقرآن. وقيل{وما هي} أي وما هذه النار التي هي سقر {إلا ذكري} أي عظة {للبشر} أي للخلق. وقيل: نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة. قال الزجاج. وقيل: أي ما هذه العدة {إلا ذكري للبشر} أي ليتذكروا ويعلموا كمال قدرة الله تعالى، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار؛ فالكناية على هذا في قوله تعالى{وما هي} ترجع إلى الجنود؛ لأنه أقرب مذكور. {كلا والقمر، والليل إذ أدبر، والصبح إذا أسفر، إنها لإحدى الكبر، نذيرا للبشر، لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر، كل نفس بما كسبت رهينة، إلا أصحاب اليمين، في جنات يتساءلون، عن المجرمين، ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين، حتى أتانا اليقين، فما تنفعهم شفاعة الشافعين} قوله تعالى{كلا والقمر} قال الفراء{كلا} صلة للقسم، التقدير أي والقمر. وقيل: المعنى حقا والقمر؛ فلا يوقف على هذين التقديرين على {كلا} وأجاز الطبري الوقف عليها، وجعلها ردا للذين زعموا أنهم يقاومون خزنة جهنم؛ أي ليس الأم كما يقول من زعم أنه يقاوم خزنة النار. ثم أقسم على ذلك جل وعز بالقمر وبما بعده، فقال{والليل إذا أدبر} أي ولى وكذلك {دبر}. وقرأ نافع وحمزة وحفص {إذ أدبر} الباقون {إذا} بألف و{دبر} بغير ألف وهما لغتان بمعنى؛ يقال دبر وأدبر، وكذلك قبل الليل وأقبل. وقد قالوا: أمس الدابر والمدابر؛ قال صخر بن عمرو بن الشريد السلمي: ويروي المدبر. وهذا قول الفراء والأخفش. وقال بعض أهل اللغة: دبر الليل: إذا مضى، وأدبر: أخذ في الإدبار. وقال مجاهد: سألت ابن عباس عن قوله تعالى{والليل إذا دبر} فسكت حتى إذا دبر قال: يا مجاهد، هذا حين دبر الليل. وقرأ محمد بن السميقع {والليل إذا أدبر} بألفين، وكذلك في مصحف عبدالله وأبي بألفين. وقال قطرب من قرأ {دبر} فيعني أقبل، من قول العرب دبر فلان: إذا جاء من خلفي. قال أبو عمرو: وهي لغة قريش. وقال ابن عباس في رواية عنه: الصواب{أدبر}، إنما يدبر ظهر البعير. واختار أبو عبيد{إذا أدبر} قال: لأنها أكثر موافقة للحروف التي تليه؛ ألا تراه يقول{والصبح إذا أسفر}، فكيف يكون أحدهما {إذ} والآخر {إذا} وليس في القرآن قسم تعقبه {إذ} وإنما يتعقبه {إذا}. ومعنى {أسفر}: ضاء. وقراءة العامة {أسفر} بالألف. وقرأ ابن السميقع{سفر}. وهما لغتان. يقال: سفر وجه فلان وأسفر: إذا أضاء. وفي الحديث: قوله تعالى{إنها لإحدى الكبر} جواب القسم؛ أي إن هذه النار {لإحدى الكبر} أي لإحدى الدواهي. وفي تفسير مقاتل {الكبر}: اسم من أسماء النار. وروي عن ابن عباس {إنها} أي إن تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم {لإحدى الكبر} أي لكبيرة من الكبائر. وقيل: أي إن قيام الساعة لإحدى الكبر. والكبر: هي العظائم من العقوبات؛ قال الراجز: وواحدة الكبر، كبرى مثل الصغرى والصغر، والعظمى والعظم. وقرأ العامة لإحدى وهو اسم بني ابتداء للتأنيث، وليس مبنيا على المذكر؛ نحو عقبى وأخرى، وألفه ألف قطع، لا تذهب في الوصل. وروى جرير بن حازم عن ابن كثير {إنها لحدى الكبر} بحذف الهمزة. {نذيرا للبشر} يريد النار؛ أي أن هذه النار الموصوفة {نذيرا للبشر} فهو نصب على الحال من المضمر في {إنها} قال الزجاج. وذكر؛ لأن معناه معنى العذاب، أو أراد ذات إنذار على معنى النسب؛ كقولهم: امرأة طالق وطاهر. وقال الخليل: النذير: مصدر كالنكير، ولذلك يوصف به المؤنث. وقال الحسن: والله ما أنذر الخلائق بشيء أدهى منها. وقيل: المراد بالنذير محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي قم نذيرا للبشر، أي مخوفا لهم {فنذيرا} حال من {قم} في أول السورة حين قال{قم فأنذر}المدثر: 2] قال أبو علي الفارسي وابن زيد، وروي عن ابن عباس وأنكره الفراء. ابن الأنباري: وقال بعض المفسرين معناه {يا أيها المدثر قم نذيرا للبشر}. وهذا قبيح؛ لأن الكلام قد طال فيما بينهما. وقيل. هو من صفة الله تعالى. روى أبو معاوية الضرير: حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي رزين {نذيرا للبشر} قال: يقول الله عز وجل: أنا لكم منها نذير فاتقوها. و(نذيرا) على هذا نصب على الحال؛ أي {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} منذرا بذلك البشر. وقيل: هو حال من {هو} في قوله تعالى{وما يعلم جنود ربك إلا هو}. وقيل: هو في موضع المصدر، كأنه قال: إنذار للبشر. قال الفراء: يجوز أن يكون النذير بمعنى الإنذار، أي أنذر إنذارا؛ فهو كقوله تعالى{فكيف كان نذير} أي إنذاري؛ فعلى هذا يكون راجعا إلى أول السورة؛ أي قم فأنذر أي إنذارا. وقيل: هو منصوب بإضمار فعل. وقرأ ابن أبي عبلة {نذير} بالرفع على إضمار هو. وقيل: أي إن القرآن نذير للبشر، لما تضمنه من الوعد والوعيد. قوله تعالى{لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} اللام متعلقة {بنذيرا}، أي نذيرا لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الخير والطاعة، أو يتأخر إلى الشر والمعصية؛ نظيره وقال السدي{لمن شاء منكم أن يتقدم} إلى النار المتقدم ذكرها، {أو يتأخر} عنها إلى الجنة. قوله تعالى{كل نفس بما كسبت رهينة} أي مرتهنة بكسبها، مأخوذة بعملها، إما خلصها وإما أوبقها. وليست {رهينة} تأنيث رهين في قوله تعالى كأنه قال رهن رمس. والمعنى: كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك {إلا أصحاب اليمين} فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم. واختلف في تعيينهم؛ فقال ابن عباس: الملائكة. علي بن أبي طالب: أولاد المسلمين لم يكتسبوا فيرتهنوا بكسبهم. الضحاك: الذين سبقت لهم من الله الحسنى، ونحوه عن ابن جريج؛ قال: كل نفس بعملها محاسبة {إلا أصحاب اليمين} وهم أهل الجنة، فإنهم لا يحاسبون. وكذا قال مقاتل أيضا: هم أصحاب الجنة الذين كانوا عن يمين آدم يوم الميثاق حين قال الله لهم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي. وقال الحسن وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين؛ لأنهم أدوا ما كان عليهم. وعن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: هم المسلمون. وقيل: إلا أصحاب الحق وأهل الإيمان. وقيل: هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم. وقال أبو جعفر الباقر: نحن وشيعتنا أصحاب اليمين، وكل من أبغضنا أهل البيت فهم المرتهنون. وقال الحكم: هم الذين اختارهم الله لخدمته، فلم يدخلوا في الرهن، لأنهم خدام الله وصفوته وكسبهم لم يضرهم. وقال القاسم: كل نفس مأخوذة بكسبها من خير أو شر، إلا من اعتمد على الفضل والرحمة، دون الكسب والخدمة، فكل من اعتمد على الكسب فهو مرهون، وكل من اعتمد على الفضل فهو غير مأخوذ به. {في جنات} أي في بساتين {يتساءلون} أي يسألون {عن المجرمين} أي المشركين {ما سلككم} أي أدخلكم {في سقر} كما تقول: سلكت الخيط في كذا أي أدخلته فيه. قال الكلبي: فيسأل الرجل من أهل الجنة الرجل من أهل النار باسمه، فيقول له: يا فلان. وفي قراءة عبدالله بن الزبير {يا فلان ما سلكك في سقر}؟ وعنه قال: قرأ عمر بن الخطاب {يا فلان ما سلككم في سقر} وهي قراءة على التفسير؛ لا أنها قرآن كما زعم من طعن في القرآن؛ قال أبو بكر بن الأنباري. وقيل: إن المؤمنين يسألون الملائكة عن أقربائهم، فتسأل الملائكة المشركين فيقولون لهم{ما سلككم في سقر}. قال الفراء: في هذا ما يقوي أن أصحاب اليمين الولدان؛ لأنهم لا يعرفون الذنوب. {قالوا} يعني أهل النار {لم نك من المصلين} أي المؤمنين الذين يصلون. {ولم نك نطعم المسكين} أي لم نك نتصدق. {وكنا نخوض مع الخائضين} أي كنا نخالط أهل الباطل في باطلهم. وقال ابن زيد: نخوض مع الخائضين في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قولهم - لعنهم الله - كاهن، مجنون، شاعر، ساحر. وقال السدي: أي وكنا نكذب مع المكذبين. وقال قتادة: كلما غوى غاو غوينا معه. وقيل معناه: وكنا أتباعا ولم نكن متبوعين. {وكنا نكذب بيوم الدين} أي لم نك نصدق بيوم القيامة، يوم الجزاء والحكم. {حتى أتانا اليقين} أي جاءنا ونزل بنا الموت؛ ومنه قوله تعالى قوله تعالى{فما تنفعهم شفاعة الشافعين} هذا دليل على صحة الشفاعة للمذنبين؛ وذلك أن قوما من أهل التوحيد عذبوا بذنوبهم، ثم شفع فيهم، فرحمهم الله بتوحيدهم والشفاعة، فأخرجوا من النار، وليس للكفار شفيع يشفع فيهم. وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: يشفع نبيكم صلى الله عليه وسلم رابع أربعة: جبريل، ثم إبراهيم، ثم موسى أو عيسى، ثم نبيكم صلى الله عليه وسلم، ثم الملائكة، ثم النبيون، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ويبقى قوم في جهنم، فيقال لهم{ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين. ولم نك نطعم المسكين} إلى قوله{فما تنفعهم شفاعة الشافعين} قال عبدالله بن مسعود: فهؤلاء هم الذين يبقون في جهنم؛ وقد ذكرنا إسناده في كتاب التذكرة. {فما لهم عن التذكرة معرضين، كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة، بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة، كلا بل لا يخافون الآخرة} قوله تعالى{فما لهم عن التذكرة معرضين} أي فما لأهل مكة أعرضوا وولوا عما جئتم به. وفي تفسير مقاتل: الإعراض عن القرآن من وجهين: أحدهما الجحود والإنكار، والوجه الآخر ترك العمل بما فيه. و{معرضين} نصب على الحال من الهاء والميم في {لهم} وفي اللام معنى الفعل؛ فانتصاب الحال على معنى الفعل. {كأنهم} أي كأن هؤلاء الكفار في فرارهم من محمد صلى الله عليه وسلم {حمر مستنفرة} قال ابن عباس: أراد الحمر الوحشية. وقرأ نافع وابن عامر بفتح الفاء، أي منفرة مذعورة؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. الباقون بالكسر، أي نافرة. يقال. نفرت واستنفرت بمعنى؛ مثل عجبت واستعجبت، وسخرت واستسخرت، وأنشد الفراء: قوله تعالى{فرت} أي نفرت وهربت {من قسورة} أي من رماة يرمونها. وقال بعض أهل اللغة: إن القسورة الرامي، وجمعه القسورة. وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك وابن كيسان: القسورة: هم الرماة والصيادون، ورواه عطاء عن ابن عباس وأبو [ظبيان] عن أبي موسى الأشعري. وقيل: إنه الأسد؛ قال أبو هريرة وابن عباس أيضا. ابن عرفة: من العسر بمعنى القهر أي؛ إنه يقهر السباع، والحمر الوحشية تهرب من السباع. وروى أبو جمرة عن ابن عباس قال: ما أعلم القسورة الأسد في لغة أحد من العرب، ولكنها عصب الرجال؛ قال: فالقسورة جمع الرجال، وأنشد: وعنه: ركز الناس أي حسهم وأصواتهم. وعنه أيضا{فرت من قسورة} أي من حبال الصيادين. وعنه أيضا: القسورة بلسان العرب: الأسد، وبلسان الحبشة: الرماة؛ وبلسان فارس: شير، وبلسان النبط: أريا. وقال ابن الأعرابي: القسورة: أول الليل؛ أي فرت من ظلمة الليل. وقاله عكرمة أيضا. وقيل: هو أول سواد الليل، ولا يقال لآخر سواد الليل قسورة. وقال زيد بن أسلم: من رجال أقوياء، وكل شديد عند العرب فهو قسورة وقسور. وقال لبيد بن ربيعة: قوله تعالى{بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة} أي يعطى كتبا مفتوحة؛ وذلك أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد! ايتنا بكتب من رب العالمين مكتوب فيها: إني قد أرسلت إليكم محمدا، صلى الله عليه وسلم. نظيره {كلا إنه تذكرة، فمن شاء ذكره، وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة} قوله تعالى{كلا إنه تذكرة} أي حقا إن القرآن عظة. {فمن شاء ذكره} أي اتعظ به. {وما يذكرون} أي وما يتعظون {إلا أن يشاء الله} أي ليس يقدرون على الاتعاظ والتذكر إلا بمشيئة الله ذلك لهم. وقراءة العامة {يذكرون} بالياء واختاره أبو عبيد؛ لقوله تعالى{كلا بل لا يخافون الآخرة}. وقرأ نافع ويعقوب بالتاء، واختاره أبو حاتم، لأنه أعم واتفقوا على تخفيفها. {هو أهل التقوى وأهل المغفرة}" وقال محمد بن نصر: أنا أهل أن يتقيني عبدي، فإن لم يفعل كنت أهلا أن أغفر له [وأرحمه، وأنا الغفور الرحيم].
|